اعتاد في بواكير صباه،أن يفطر على خبز التنور الحار، مدهونا بزبدة الماعز، حالما تخرجها من الشجوة عمته العجوز،بعد أن تفرغ من خض اللبن،الذي كانت تحرص على أن تجمع زبده بانتظام، في المزبد الذي صنعته بيدها من جلد الحملان الصغيرة، لتحفظ به ما تستخرجه من الزبد، إلى أن يتراكم فيملأ المزبد، لتشرع عندئذ، بتخليصه من الشوائب كل بضعة أيام، بإذابة ألزبدة المتراكمة على نار حطب،بعد أن تخلطها بجريش القمح، لكي تنقيها من العوالق ،فيصفو دهنا حرا، لتضعه بعد ذلك، في جلد آخر، تطلق عليه المدهنة،عندما تنوي خزن كميات قليلة،لغرض الاستهلاك اليومي، أوفي جلد اكبر حجما،تسميه الظرف، لخزن الكميات الكبيرة، بعد أن تضيف له قليلا من الدبس،وتضعه داخل حاوية من الطين بحجم الظرف،اعتادت أن تصنعها بأربعة قوائم،لخزن محصولها من الدهن فترة طويلة،وحفظه من الفساد، للاستخدام في قادم الأيام.
وكان صاحبنا يتلذذ كثيرا بالدهن الحر، وزبدة الماعز،حيث اعتاد عليها، ولأنها ربما اقل تركيزا، واخف حدة، في نكهتها، من زبدة الضأن،مع ولعه بنصاعة بياضها.ولم يعدم أن يتناول معها لبن الشجوة، الذي اكتمل توا بالخض، بعد أن سحبت الختيارة كل دهنه،وتركته بالشجوة لاستهلاك العيال،ومرتادي الديوان من الربع،وعابري السبيل، على الطروالة، التي اعتادت أن تعملها منضدة من أربعة أعمدة، من خشب الغرب، ثم تضع عليها زربا صنعته، من قصب الوادي، بعد أن قصقصت أطرافه،ثم صفته جنب بعضه،وحاكته بخيط غزلته من شعر الماعز،لتطرح شجوة اللبن فوقها للتهوية، متفيئة ظل حائط الدار، لتبرد على نسمات هواء الصباح العليل، إلى ما قبيل ضحى ظهيرة ذلك اليوم، حيث لا مناص عندها ،من أن تنقلها داخل الدار، قبل أن تمتد إليها أشعة الشمس،إذ لم تكن يوم ذاك ثمة وسائل للتبريد، وحفظ اللبن،غير ما يتمكن الناس من حصولهم عليه من منافع،بجهدهم الميسر، من الطبيعة مباشرة، بما تراكم لديهم من خبرة متواضعة.
لقد كان على الفتى، عندما التحق بالإعدادية، في مركز المدينة، بعد أن أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة القرية المجاورة،وأكمل المتوسطة في مركز القضاء، أن يندمج بحياة الحضر، رويدا رويدا،وان يحاكي أسلوب الحياة فيها،شيئا فشيئا،بدءا من طريقة مسك الشوكة والملعقة،في تناوله الطعام،مرورا بأسلوب شرب الماء بالقدح، من دون عب، ولثم استكان الشاي من دون شفط،وقرع باب الدار بالثقالة عند الدخول،وانتهاء بطريقة النوم على السرير.
لكنه ظل يفضل عب الماء من القارورة،وتناول الثريد باليد،ولعق أنامله عندما يشبع،والتنحنح عند وصول الدار، وارتجال العتابة، كلما خلا بنفسه،وعن بباله، خيال قريته الجميلة،بفضاءات بريتها البهية،وسرح أنعامها في الغداة،وعند رواحها بالمساء،حتى بعد أن حط في أسفاره المتكررة،في أكثر حواضر التمدن المعاصرة اتكيتية.
وما برح يتذكر، كيف كانت تعاف نفسه، ويمج ذوقه،تناول زيت الطعام النباتي، الذي غزا السوق لأول مرة،وشاع استهلاكه بين العامة بالتدريج.لذلك كان يحرص، على جلب قنينة من الدهن الحر معه،مطلع كل أسبوع، ليتفادى تناول السمن النباتي،ما أمكنه ذلك.
تلك هي إذن قصة ذلك الطالب، الفتى القروي،القادم من أعماق الريف،يحمل معه ارثه من تقاليد الأجداد،بكل أصالته،والذي كان عليه أن يندمج بتمهل، مع حياة المدينة،ويتكيف مع الحداثة بوعي،دون أن يسمح لها أن تلغي أصالة موروثه الريفي،فتعايشت بوئام، مع إرهاصات نشأته الأولى،لتستقر في هامش ذاكرته، حتى باتت، بشكل ما، جزءا من ملامح تجربته الشخصية فيما بعد.
[center]